خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 25 من جمادى الآخرة 1443هـ - الموافق 28 / 1 / 2022م
خُلُقُ الْحَيَاءِ
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ [آل عمران:102] ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب: 70- 71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ مَحْمُودِ الشِّيَمِ وَالطِّبَاعِ؛ فَبِهِ تُحْمَدُ الشَّمَائِلُ وَالسَّجَايَا، وَتُجْتَنَبُ الرَّذَائِلُ وَالدَّنَايَا، وَمِنْ كَرِيمِ شِيمَةِ هَذَا الْخُلُقِ: أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ اتَّصَفَ بِهِ؛ فَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ, يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَلَمَّا كَانَ أَنْبِيَاءُ اللهِ وَرُسُلُهُ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَعْلَاهُمْ مَكَانَةً وَزُلْفَى، فَقَدْ نَالُوا حَظَّهُمْ مِنْ هَذَا الْخُلُقِ فَازْدَانُوا بِهِ حُسْنًا وَجَمَالًا وَهَيْبَةً وَجَلَالًا؛ فَكَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وإذَا كَرِهَ شيئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَهَذَا كَلِيمُ الرَّحْمَنِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَحَلَّى بِهَذَا الْخُلُقِ وَتَجَمَّلَ بِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنَ اللهِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْحَيَاءَ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ كُلِّ جَمِيلٍ، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَلِهَذَا كَانَ شُعْبَةً مِنَ الْإِيمَانِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً: فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَإِنَّمَا كَانَ الْحَيَاءُ شُعْبَةً مِنَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ مَنْ رُزِقَ الْحَيَاءَ انْقَطَعَ بِحَيَائِهِ عَنِ الْمَعَاصِي، فَصَارَ كَالْإِيمَانِ الَّذِي يَقْطَعُ عَنْهَا وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْخُلُقِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ r قَرَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ» [رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ]. بَلْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلُقَ الإِسْلَامِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا, وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. قَالَ إِيَاسُ بْنُ قُرَّةَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذُكِرَ عِنْدَهُ الْحَيَاءُ، فَقَالُوا: الْحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ. فَقَالَ عُمَرُ: «بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ»
عِبَادَ اللهِ:
وَأَعْظَمُ الْحَيَاءِ وَأَعْلَاهُ وَأَجَلُّهُ وَأَوْفَاهُ: الْحَيَاءُ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَخُلُقُ الْحَيَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَجَلِّهَا وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا، بَلْ هُوَ خَاصَّةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَمَنْ لَا حَيَاءَ فِيهِ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَصُورَتُهُمَا الظَّاهِرَةُ).
إِذَا لَــمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِــي وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَـعْ مَا تَشَاءُ
فَلَا وَاللهِ مَـا فِي الْعَيْشِ خَيْـرٌ وَلَا الدُّنْيَــا إِذَا ذَهَــبَ الْحَيَـاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى الْعُــودُ مَا بَقِيَ اللِّحَـاءُ
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا لَا يَنْفَدُ، أَفَضْلَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَدَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى أَفْضَلِ المُصْطَفَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَعَبَّدَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْحَيَاءَ مَرْكُوزٌ فِي النُّفُوسِ الْقَوِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَلَئِنْ كَانَ يَجْمُلُ فِي الرِّجَالِ فَهُوَ فِي النِّسَاءِ أَجْمَلُ؛ فَمَتَى لَبِسَتِ الْمَرْأَةُ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ وَتَقَنَّعَتْ بِهِ فَلَا تَسَلْ عَنْ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَانْدِحَارِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَمَتَى خَلَعَتِ الْمَرْأَةُ رِبْقَةَ حَيَائِهَا فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ زِينَةِ حَيَاتِهَا، وَبَادَرَتْ فِي تَلَفِ نَفْسِهَا، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ حَالُ أُولَئِكَ الْخَيِّـرَاتِ وَالنِّسْوَةِ الْمُطَهَّرَاتِ فِي حِرْصِهِنَّ عَلَى السَّتْرِ وَالْحَيَاءِ وَلَوِ انْسَلَّتِ الْأَرْوَاحُ مِنَ الْأَجْسَادِ!! فَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: (كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِيَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي, فَأَضَعُ ثَوْبِي، فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ، فَوَاللهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي؛ حَيَاءً مِنْ عُمَرَ) [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَاحْرِصُوا – رَحِمَكُمُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى الْأَخْذِ بِالنَّصَائِحِ وَالتَّوْصِيَاتِ الصِّحِّيَّةِ، وَالْتِزَامِ الْإِجْرَاءَاتِ الِاحْتِرَازِيَّةِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِهِ، وَأَحْيِنَا عَلَى سُنَّتِهِ، وَتَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ، وَأَكْرِمْنَا بِشَفَاعَتِهِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، رَبَّنَا ارْفَعْ عَنَّا الْبَلَاءَ وَالْوَبَاءَ، وَالضَّرَّاءَ وَالْبَأْسَاءَ، وَأَدِمْ عَلَيْنَا النِّعَمَ، وَادْفَعْ عَنَّا النِّقَمَ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُمَا الصَّالِحَةَ فِي رِضَاكَ، وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة